فصل: الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 8 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة يس

 مقدمة السورة

وهي مكية بإجماع‏.‏ وهي ثلاث وثمانون آية؛ إلا أن فرقة قالت‏:‏ إن قوله تعالى ‏}‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏{‏يس‏:‏ 12‏]‏ نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما يأتي‏.‏ وفي كتاب أبي داود عن معقل بن يسار قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقرؤوا يس على موتاكم‏)‏‏.‏ وذكر الآجري من حديث أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من ميت يقرأ عليه سورة يس إلا هون الله عليه‏.‏ وفي مسند الدارمي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ سورة يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة‏)‏ خرجه أبو نعيم الحافظ أيضا‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن أنس‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات‏)‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب، وفي إسناده هارون أبو محمد شيخ مجهول؛ وفي الباب عن أبي بكر الصديق، ولا يصح حديث أبي بكر من قبل إسناده، وإسناده ضعيف‏.‏ وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويغفر لمستمعها ألا وهي سورة يس تدعى في التوراة المعمة‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله وما المعمة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تعم صاحبها بخير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة وتدعى الدافعة والقاضية‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ومن سمعها كانت له كألف دينار تصدق بها في سبيل الله ومن كتبها وشربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف يقين وألف رحمة وألف رأفة وألف هدى ونزع عنه كل داء وغل‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي من حديث عائشة، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مسندا‏.‏ وفي مسند الدارمي عن شهر بن حوشب قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ من قرأ ‏}‏يس‏}‏ حين يصبح أعطي يسر يومه حتى يمسي ومن قرأها في صدر ليلته أعطي يسر ليلته حتى يصبح‏.‏ وذكر النحاس عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال‏:‏ لكل شيء قلب وقلب القرآن يس من قرأها نهارا كفي همه ومن قرأها ليلا غفر ذنبه‏.‏ وقال شهر بن حوشب‏:‏ يقرأ أهل الجنة ‏}‏طه‏}‏ و‏}‏يس‏}‏ فقط‏.‏

رفع هذه الأخبار الثلاثة الماوردي فقال‏:‏ روى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لكل شيء قلبا وإن قلب القرآن يس ومن قرأها في ليلة أعطي يسر تلك الليلة ومن قرأها في يوم أعطي يسر ذلك اليوم وإن أهل الجنة يرفع عنهم القرآن فلا يقرؤون شيئا إلا طه ويس‏)‏‏.‏ وقال يحيى بن أبي كثير‏:‏ بلغني أن من قرأ سورة ‏}‏يس‏}‏ ليلا لم يزل في فرح حتى يصبح، ومن قرأها حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي؛ وقد حدثني من جربها؛ ذكره الثعلبي وابن عطية، قال ابن عطية‏:‏ ويصدق ذلك التجربة‏.‏ وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول عن عبدالأعلى قال‏:‏ حدثنا محمد بن الصلت عن عمر بن ثابت عن محمد بن مروان عن أبي جعفر قال‏:‏ من وجد في قلبه قساوة فليكتب ‏}‏يس‏}‏ في جام بزعفران ثم يشربه؛ حدثني أبي رحمه الله قال‏:‏ حدثنا أصرم بن حوشب، عن بقية بن الوليد، عن المعتمر بن أشرف، عن محمد بن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏القرآن أفضل من كل شيء دون الله وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه فمن وقر القرآن فقد وقر الله ومن لم يوقر القرآن لم يوقر الله وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده‏.‏ القرآن شافع مشفع وما حل مصدق فمن شفع له القرآن شفع ومن محل به القرآن صُدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار‏.‏ وحملة القرآن هم المحفوفون بحرمة الله الملبسون نور الله المعلمون كلام الله من والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد عادى الله، يقول الله تعالى‏:‏ يا حملة القرآن استجيبوا لربكم بتوقير كتابه يزدكم حبا ويحببكم إلى عباده يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة ومن استمع آية من كتاب الله كان له أفضل مما تحت العرش إلى التخوم وإن في كتاب الله لسورة تدعى العزيزة ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس‏)‏‏.‏ وذكر الثعلبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من قرأ سورة يس ليلة الجمعة أصبح مغفورا له‏)‏‏.‏ وعن أنس أن رسول الله صلى قال‏:‏ ‏(‏من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد حروفها حسنات‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 5 ‏)‏

‏{‏يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيل العزيز الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏}‏يس‏}‏ في ‏}‏يس‏}‏ أوجه من القراءات‏:‏ قرأ أهل المدينة والكسائي ‏}‏يس والقرآن الحكيم‏}‏ بإدغام النون في الواو‏.‏ وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة ‏}‏يس‏}‏ بإظهار النون‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏}‏يسن‏}‏ بنصب النون‏.‏ وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم ‏}‏يسن‏}‏ بالكسر‏.‏ وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميقع ‏}‏يسن‏}‏ بضم النون؛ فهذه خمس قراءات‏.‏ القراءة الأولى بالإدغام على ما يجب في العربية؛ لأن النون تدغم في الواو‏.‏ ومن بين قال‏:‏ سبيل حروف الهجاء أن يوقف عليها، وإنما يكون الإدغام في الإدراج‏.‏ وذكر سيبويه النصب وجعله من جهتين‏:‏ إحداهما أن يكون مفعولا ولا يصرفه؛ لأنه عنده اسم أعجمي بمنزلة هابيل، والتقدير أذكر يسين‏.‏ وجعله سيبويه اسما للسورة‏.‏ وقوله الآخر أن يكون مبنيا على الفتح مثل كيف وأين‏.‏ وأما الكسر فزعم الفراء أنه مشبه بقول العرب جير لا أفعل، فعلى هذا يكون ‏}‏يسن‏}‏ قسما‏.‏ وقاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ مشبه بأمس وحذام وهؤلاء ورقاش‏.‏ وأما الضم فمشبه بمنذ وحيث وقط، وبالمنادى المفرد إذا قلت يا رجل، لمن يقف عليه‏.‏ قال ابن السميقع وهارون‏:‏ وقد جاء في تفسيرها رجل فالأولى بها الضم‏.‏ قال ابن الأنباري‏}‏ ‏}‏يس‏}‏ وقف حسن لمن قال هو افتتاح للسورة‏.‏ ومن قال‏:‏ معنى ‏}‏يس‏}‏ يا رجل لم يقف عليه‏.‏ وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن معناه يا إنسان، وقالوا في قوله تعالى‏}‏سلام على إل ياسين‏{‏الصافات‏:‏ 130‏]‏ أي على آل محمد‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم؛ ودليله ‏}‏إنك لمن المرسلين ‏}‏‏.‏ قال السيد الحميري‏:‏

يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة على المودة إلا آل ياسين

وقال أبو بكر الوراق‏:‏ معناه يا سيد البشر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه اسم من أسماء الله؛ قال مالك‏.‏ روى عنه أشهب قال‏:‏ سألته هل ينبغي لأحد أن يتسمى بياسين‏؟‏ قال‏:‏ ما أراه ينبغي لقول الله‏}‏يس والقرآن الحكيم‏}‏ يقول هذا اسمي يس‏.‏ قال ابن العربي هذا كلام بديع، وذلك أن العبد يجوز له أن يتسمى باسم الرب إذا كان فيه معنى منه؛ كقوله‏:‏ عالم وقادر ومريد ومتكلم‏.‏ وإنما منع مالك من التسمية بـ ‏}‏يسين‏}‏؛ لأنه اسم من أسماء الله لا يدرى معناه؛ فربما كان معناه ينفرد به الرب فلا يجوز أن يقدم عليه العبد‏.‏ فإن قيل فقد قال الله تعالى‏}‏سلام على إل ياسين‏{‏الصافات‏:‏ 130‏]‏ قلنا‏:‏ ذلك مكتوب بهجاء فتجوز التسمية به، وهذا الذي ليس بمتهجى هو الذي تكلم مالك عليه؛ لما فيه من الإشكال؛ والله أعلم‏.‏ وقال بعض العلماء‏:‏ افتتح الله هذه السورة بالياء والسين وفيهما مجمع الخير‏:‏ ودل المفتتح على أنه قلب، والقلب أمير على الجسد؛ وكذلك ‏}‏يس‏}‏ أمير على سائر السور، مشتمل على جميع القرآن‏.‏ ثم اختلفوا فيه أيضا؛ فقال سعيد بن جبير وعكرمة‏:‏ هو بلغة الحبشة‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هو بلغة طي‏.‏ الحسن‏:‏ بلغة كلب‏.‏ الكلبي‏:‏ هو بالسريانية فتكلمت به العرب فصار من لغتهم‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏طه‏}‏ وفي مقدمة الكتاب مستوفى‏.‏ وقد سرد القاضي عياض أقوال المفسرين في معنى ‏}‏يس‏}‏ فحكى أبو محمد مكي أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لي عند ربي عشرة أسماء‏)‏ ذكر أن منها طه ويس اسمان له

قلت‏:‏ وذكر الماوردي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبدالله‏)‏ قاله القاضي‏.‏ وحكى أبو عبدالرحمن السلمي عن جعفر الصادق أنه أراد يا سيد، مخاطبة لنبيه صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس‏}‏يس‏}‏ يا إنسان أراد محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال‏:‏ هو قسم وهو من أسماء الله سبحانه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قيل معناه يا محمد وقيل يا رجل وقيل يا إنسان‏.‏ وعن ابن الحنفية‏}‏يس‏}‏ يا محمد‏.‏ وعن كعب‏}‏يس‏}‏ قسم أقسم الله به قبل أن يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد‏}‏إنك لمن المرسلين‏}‏ ثم قال‏}‏والقرآن الحكيم‏}‏‏.‏ فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم، مؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه‏.‏ وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته‏.‏ أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده، وعلى صراط مستقيم من إيمانه؛ أي طريق لا أعوجاج فيه ولا عدول عن الحق‏.‏ قال النقاش‏:‏ لم يقسم الله تعالى لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم‏)‏ انتهى كلامه‏.‏ وحكى القشيري قال ابن عباس‏:‏ قالت كفار قريش لست مرسلا وما أرسلك الله إلينا؛ فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمدا من المرسلين‏.‏ ‏}‏الحكيم‏}‏ المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض؛ كما قال‏}‏أحكمت آياته‏{‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل‏.‏ وقد يكون ‏}‏الحكيم‏}‏ في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم‏.‏ ‏}‏على صراط مستقيم‏}‏ أي دين مستقيم وهو الإسلام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ على طريق الأنبياء الذين تقدموك؛ وقال‏}‏إنك لمن المرسلين‏}‏ خبر إن، و‏}‏على صراط مستقيم‏}‏ خبر ثان، أي إنك لمن المرسلين، وإنك على صراط مستقيم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لمن المرسلين على استقامة؛ فيكون قوله‏}‏على صراط مستقيم‏}‏ من صلة المرسلين؛ أي إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة؛ كقوله تعالى‏}‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم‏.‏ صراط الله‏}‏ أي الصراط الذي أمر الله به‏.‏

قوله تعالى‏}‏تنزيل العزيز الرحيم‏}‏ قرأ ابن عامر وحفص والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف‏}‏تنزيل‏}‏ بنصب اللام على المصدر؛ أي نزل الله ذلك تنزيلا‏.‏ وأضاف المصدر فصار معرفة كقوله‏}‏فضرب الرقاب‏{‏محمد‏:‏ 4‏]‏ أي فضربا للرقاب‏.‏ الباقون ‏}‏تنزيل‏}‏ بالرفع على خبر ابتداء محذوف أي هو تنزيل، أو الذي أنزل إليك تنزيل العزيز الرحيم‏.‏ هذا وقرئ‏}‏تنزيل‏}‏ بالجر على البدل من ‏}‏القرآن‏}‏ والتنزيل يرجع إلى القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي إنك لمن المرسلين، وإنك ‏}‏تنزيل العزيز الرحيم‏}‏‏.‏ فالتنزيل على هذا بمعنى الإرسال؛ قال الله تعالى‏}‏قد أنزل الله إليكم ذكرا‏.‏ رسولا يتلوا عليكم‏{‏الطلاق‏:‏11‏]‏ ويقال‏:‏ أرسل الله المطر وأنزله بمعنى‏.‏ ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة الله أنزلها من السماء‏.‏ ومن نصب قال‏:‏ إنك لمن المرسلين إرسالا من العزيز الرحيم‏.‏ و‏}‏العزيز‏}‏ المنتقم ممن خالفه ‏}‏الرحيم‏}‏ بأهل طاعته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏:‏ 8 ‏)‏

‏{‏لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون، لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون‏}‏

قوله تعالى‏}‏لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ لا موضع لها من الإعراب عند أكثر أهل التفسير، منهم قتادة؛ لأنها نفي والمعنى‏:‏ لتنذر قوما ما أتى آباءهم قبلك نذير‏.‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى الذي فالمعنى‏:‏ لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم؛ قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏}‏ما‏}‏ والفعل مصدر؛ أي لتنذر قوما إنذار آبائهم‏.‏ ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء؛ فالمعنى لم ينذروا برسول من أنفسهم‏.‏ ويجوز أن يكون بلغهم الخبر ولكن غفلوا وأعرضوا ونسوا‏.‏ ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي، وقد قال الله‏}‏وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير‏{‏سبأ‏:‏ 44‏]‏ وقال‏}‏لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون‏{‏السجدة‏:‏ 3‏]‏ أي لم يأتهم نبي‏.‏ وعلى قول من قال بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك، ويقال للمعرض عن الشيء إنه غافل عنه‏.‏ وقيل‏}‏فهم غافلون‏}‏ عن عقاب الله‏.‏

قوله تعالى‏}‏لقد حق القول على أكثرهم‏}‏ أي وجب العذاب على أكثرهم ‏}‏فهم لا يؤمنون‏}‏ بإنذارك‏.‏ وهذا فيمن سبق في علم الله أنه يموت على كفره‏.‏ ثم بين سبب تركهم الإيمان فقال‏}‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في أبي جهل بن هشام وصاحبيه المخزوميين؛ وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا يصلي ليرضخن رأسه بحجر؛ فلما رآه ذهب فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده؛ قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما؛ فهو على هذا تمثيل أي هو بمنزلة من علت يده إلى عنقه، فلما عاد إلى أصحابه أخبرهم بما رأى، فقال الرجل الثاني وهو الوليد بن المغيرة‏:‏ أنا أرضخ رأسه‏.‏ فأتاه وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقال‏:‏ والله ما رأيته ولقد سمعت صوته‏.‏ فقال الثالث‏:‏ والله لأشدخن أنا رأسه‏.‏ ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه‏.‏ فقيل له‏:‏ ما شأنك‏؟‏ قال شأني عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه، وإذا فحل يخطر بذنبه ما رأيت فحلا قط أعظم منه حال بيني وبينه، فواللات والعزى لو دنوت منه لأكلني‏.‏ فأنزل الله تعالى‏}‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس‏}‏إنا جعلنا في أيمانهم‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وقرئ ‏}‏إنا جعلنا في أيديهم‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف‏.‏ وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة؛ التقدير‏:‏ إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا‏.‏ ونظيره‏}‏سرابيل تقيكم الحر‏{‏النحل‏:‏ 81‏]‏ وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف؛ لأن ما وقى من الحر وقى من البرد؛ لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله عز وجل‏}‏فهي إلى الأذقان‏}‏ فقد علم أنه يراد به الأيدي‏.‏ ‏}‏فهم مقمحون‏}‏ أي رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من علت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه‏.‏ روى عبدالله بن يحيى‏:‏ أن علي بن أبي طالب عليه السلام أراهم الإقماح، فجعل يديه تحت لحيته وألصقهما ورفع رأسه‏.‏ قال النحاس، وهذا أجل ما روي فيه وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي‏.‏ قال‏:‏ يقال أقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقاف مبدلة من الكاف لقربها منها‏.‏ كما يقال‏:‏ قهرته وكهرته‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ يقال أكمحت الدابة إذا جذبت عنانها حتى ينتصب رأسها‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

‏.‏ ‏.‏‏.‏ والرأس مكمح

ويقال‏:‏ أكمحتها وأكفحتها وكبحتها؛ هذه وحدها بلا ألف عن الأصمعي‏.‏ وقمح البعير قموحا‏:‏ إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب، فهو بعير قامح وقمح؛ يقال‏:‏ شرب فتقمح وانقمح بمعنى إذا رفع رأسه وترك الشرب ريا‏.‏ وقد قامحت إبلك‏:‏ إذا وردت ولم تشرب، ورفعت رأسها من داء يكون بها أو برد‏.‏ وهي إبل مقامحة، وبعير مقامح، وناقة مقامح أيضا، والجمع قماح على غير قياس؛ قال بشر يصف سفينة‏:‏

ونحن على جوانبها قعود نغض الطرف كالإبل القماح

والإقماح‏:‏ رفع الرأس وغض البصر؛ يقال‏:‏ أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه‏.‏ وشهرا قماح‏:‏ أشد ما يكون من البرد، وهما الكانونان سميا بذلك؛ لأن الإبل إذا وردت آذاها برد الماء فقامحت رؤوسها؛ ومنه قمحت السويق‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعكم من الهدى كامتناع المغلول؛ قال يحيى بن سلام وأبو عبيدة‏.‏ وكما يقال‏:‏ فلان حمار؛ أي لا يبصر الهدى‏.‏ وكما قال‏:‏

لهم عن الرشد أغلال وأقياد

وفي الخبر‏:‏ أن أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية، فلما أسلم راودته فأبى وأنشأ يقول‏:‏

فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

أراد منعنا بموانع الإسلام عن تعاطي الزنى والفسق‏.‏ وقال الفراء أيضا‏:‏ هذا ضرب مثل؛ أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله؛ وهو كقوله تعالى‏}‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏{‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏ وقال الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جعل في يده غل فجمعت إلى عنقه، فبقي رافعا رأسه لا يخفضه، وغاضا بصره لا يفتحه‏.‏ والمتكبر يوصف بانتصاب العنق‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ إن أيديهم لما علت عند أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل ترفع رؤوسها‏.‏ وهذا المنع بخلق الكفر في قلوب الكفار، وعند قوم بسلبهم التوفيق عقوبة لهم على كفرهم‏.‏ وقيل‏:‏ الآية إشارة إلى ما يفعل بأقوام غدا في النار من وضع الأغلال في أعناقهم والسلاسل؛ كما قال تعالى‏}‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏{‏غافر‏:‏ 71‏]‏ وأخبر عنه بلفظ الماضي‏.‏ ‏}‏فهم مقمحون‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏ قال مجاهد‏}‏مقمحون‏}‏ مغلون عن كل خير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 9 ‏:‏ 11 ‏)‏

‏{‏وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون، وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم‏}‏

قوله تعالى‏}‏وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ لما عاد أبو جهل إلى أصحابه، ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسقط الحجر من يده، أخذ الحجر رجل آخر من بني مخزوم وقال‏:‏ أقتله بهذا الحجر‏.‏ فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم طمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فهذا معنى الآية‏.‏ وقال محمد بن إسحاق في روايته‏:‏ جلس عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل وأمية بن خلف، يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغوا من أذاه؛ فخرج عليهم عليه السلام وهو يقرأ ‏[‏يس‏]‏ وفي يده تراب فرماهم به وقرأ‏}‏وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا‏}‏ فأطرقوا حتى مر عليهم عليه السلام‏.‏ وقد مضى هذا في سورة ‏[‏سبحان‏]‏ ومضى في ‏}‏الكهف‏}‏ الكلام في ‏}‏سدا‏}‏ بضم السين وفتحها وهما لغتان، ‏}‏فأغشيناهم‏}‏ أي غطينا أبصارهم؛ وقد مضى في أول ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس وعكرمة ويحيى بن يعمر ‏}‏فأعشيناهم‏}‏ بالعين غير معجمة من العشاء في العين وهو ضعف بصرها حتى لا تبصر بالليل قال‏:‏

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره

وقال تعالى‏}‏ومن يعش عن ذكر الرحمن‏{‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏ الآية‏.‏ والمعنى متقارب، والمعنى أعميناهم؛ كما قال‏:‏

ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد

لا أهتدي فيها لموضع تلعة بين العذب وبين أرض مراد

‏{‏فهم لا يبصرون‏}‏ أي الهدى؛ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ محمدا حين ائتمروا على قتله؛ قاله السدي‏.‏ وقال الضحاك‏}‏وجعلنا من بين أيديهم سدا‏}‏ أي الدنيا ‏}‏ومن خلفهم سدا‏}‏ أي الآخرة؛ أي عموا عن البعث وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا؛ قال الله تعالى‏}‏وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم‏{‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ أي زينوا لهم الدنيا ودعوهم إلى التكذيب بالآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ على هذا ‏}‏من بين أيديهم سدا‏}‏ أي غرورا بالدنيا ‏}‏ومن خلفهم سدا‏}‏ أي تكذيبا بالآخرة‏.‏ وقيل‏}‏من بين أيديهم‏}‏ الآخرة ‏}‏ومن خلفهم‏}‏ الدنيا‏.‏ ‏}‏وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ والآية رد على القدرية وغيرهم‏.‏ وعن ابن شهاب‏:‏ أن عمر بن عبدالعزيز أحضر غيلان القدري فقال‏:‏ يا غيلان بلغني أنك تتكلم بالقدر؛ فقال‏:‏ يكذبون على يا أمير المؤمنين‏.‏ ثم قال‏:‏ يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى‏}‏إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا‏.‏ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا‏{‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ قال‏:‏ أقرأ يا غيلان فقرأ حتى انتهى إلى قوله‏}‏فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا‏{‏الإنسان‏:‏ 29‏]‏ فقال اقرأ فقال‏}‏وما تشاؤون إلا أن يشاء الله‏{‏الإنسان‏:‏ 30‏]‏ فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين إن شعرت أن هذا في كتاب الله قط‏.‏ فقال له‏:‏ يا غيلان أقرأ أول سورة ‏[‏يس‏]‏ فقرأ حتى بلغ ‏}‏وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون‏}‏ فقال غيلان‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم؛ اشهد يا أمير المؤمنين أني تائب‏.‏ قال عمر‏:‏ اللهم إن كان صادقا فتب عليه وثبته، وإن كان كاذبا فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمومنين؛ فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه وصلبه‏.‏ وقال ابن عون‏:‏ فأنا رأيته مصلوبا على باب دمشق‏.‏ فقلنا‏:‏ ما شأنك يا غيلان‏؟‏ فقال‏:‏ أصابتني دعوة الرجل الصالح عمر بن عبدالعزيز‏.‏

قوله تعالى‏}‏إنما تنذر من اتبع الذكر‏}‏ يعني القرآن وعمل به‏.‏ ‏}‏وخشي الرحمن بالغيب‏}‏ أي ما غاب من عذابه وناره؛ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ أي يخشاه في مغيبه عن أبصار الناس وانفراده بنفسه‏.‏ ‏}‏فبشره بمغفرة‏}‏ أي لذنبه ‏}‏وأجر كريم‏}‏ أي الجنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين‏}‏

قوله تعالى‏}‏إنا نحن نحيي الموتى‏}‏ أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردا على الكفرة‏.‏ وقال الضحاك والحسن‏:‏ أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل‏.‏ والأول أظهر؛ أي نحييهم بالبعث للجزاء‏.‏ ثم توعدهم بذكره كَتْب الآثار وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان‏.‏ قال قتادة‏:‏ معناه من عمل‏.‏ وقاله مجاهد وابن زيد‏.‏ ونظيره قوله‏}‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏}‏‏:‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 5 ‏]‏ وقوله‏}‏ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر‏{‏القيامة‏:‏ 13‏]‏، وقال‏}‏اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏{‏الحشر‏:‏ 18‏]‏ فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها‏:‏ من أثر حسن؛ كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو حبيس احتبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك‏.‏ أو سيئ كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شيء أحدثه فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها‏.‏ وقيل‏:‏ هي آثار المشائين إلى المساجد‏.‏ وعلى هذا المعنى تأول الآية عمر وابن عباس وسعيد بن جبير‏.‏ وعن ابن عباس أيضا أن معنى‏}‏وآثارهم‏}‏ خطاهم إلى المساجد‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أولى ما قيل فيه؛ لأنه قال‏:‏ إن الآية نزلت في ذلك؛ لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد‏.‏ وفي الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يكتب له برجل حسنة وتحط عنه برجل سيئه ذاهبا وراجعا إذا خرج إلى المسجد‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأردوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية‏}‏إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن آثاركم تكتب‏)‏ فلم ينتقلوا‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب من حديث الثوري‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ أراد بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد؛ قال‏:‏ والبقاع خالية؛ قال‏:‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم‏)‏ فقالوا‏:‏ ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا‏.‏ وقال ثابت البناني‏:‏ مشيت مع أنس بن مالك إلى الصلاة فأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال‏:‏ مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأسرعت، فحبسني فلما انقضت الصلاة قال‏:‏ ‏(‏أما علم أن الآثار تكتب‏)‏ فهذا احتجاج بالآية‏.‏ وقال قتادة ومجاهد أيضا والحسن‏:‏ الآثار في هذه الآية الخطا‏.‏ وحكى الثعلبي عن أنس أنه قال‏:‏ الآثار هي الخطا إلى الجمعة‏.‏ وواحد الآثار أثر ويقال أثر‏.‏

في هذه الأحاديث المفسرة لمعنى الآية دليل على أن البعد من المسجد أفضل، فلو كان بجوار مسجد، فهل له أن يجاوزه إلى الأبعد‏؟‏ اختلف فيه، فروي عن أنس أنه كان يجاوز المحدث إلى القديم‏.‏ وروي عن غيره‏:‏ الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجرا‏.‏ وكره الحسن وغيره هذا؛ وقال‏:‏ لا يدع مسجدا قربه ويأتي غيره‏.‏ وهذا مذهب مالك‏.‏ وفي تخطي مسجده إلى المسجد الأعظم قولان‏.‏ وخرج ابن ماجه من حديث أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏(‏صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة‏)‏‏.‏

‏{‏دياركم‏}‏ منصوب على الإغراء أي ألزموا، و‏(‏تكتب‏)‏ جزم على جواب ذلك الأمر‏.‏ ‏(‏وكل‏)‏ نصب بفعل مضمر يدل عليه ‏}‏أحصيناه‏}‏ كأنه قال‏:‏ وأحصينا كل شيء أحصيناه‏.‏ ويجوز رفعه بالابتداء إلا أن نصبه أولى؛ ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل‏.‏ وهو قول الخليل وسيبويه‏.‏ والإمام‏:‏ الكتاب المقتدى به الذي هو حجة‏.‏ وقال مجاهد وقتادة وابن زيد‏:‏ أراد اللوح المحفوظ‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أراد صحائف الأعمال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون‏}‏

قوله تعالى‏}‏واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أمر أن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع المفسرين فيما ذكر الماوردي‏.‏ نسبت إلى أهل أنطبيس وهو اسم الذي بناها ثم غير لما عرب؛ ذكره السهيلي‏.‏ ويقال فيها‏:‏ أنتاكية بالتاء بدل الطاء‏.‏ وكان بها فرعون يقال له أنطيخس بن أنطيخس يعبد الأصنام؛ ذكره المهدوي، وحكاه أبو جعفر النحاس عن كعب ووهب‏.‏ فأرسل الله إليه ثلاثة‏:‏ وهم صادق، وصدوق، وشلوم هو الثالث‏.‏ هذا قول الطبري‏.‏ وقال غيره‏:‏ شمعون ويوحنا‏.‏ وحكى النقاش‏:‏ سمعان ويحيى، ولم يذكرا صادقا ولا صدوقا‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏مثلا‏}‏ و‏}‏أصحاب القرية‏}‏ مفعولين لأضرب، أو ‏}‏أصحاب القرية‏}‏ بدلا من ‏}‏مثلا‏}‏ أي اضرب لهم مثل أصحاب القرية فحذف المضاف‏.‏ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار هؤلاء المشركين أن ما يحل بهم ما حل بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل‏.‏ قيل‏:‏ رسل من الله على الابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ إن عيسى بعثهم إلى أنطاكية للدعاء إلى الله‏.‏ وهو قوله تعالى‏}‏إذ أرسلنا إليهم اثنين‏}‏ أضاف الرب ذلك إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما بأمر الرب، وكان ذلك حين رفع عيسى إلى السماء‏.‏ ‏}‏فكذبوهما‏}‏ قيل ضربوهما وسجنوهما

‏{‏فعززنا بثالث‏}‏ أي فقوينا وشددنا الرسالة ‏}‏بثالث‏}‏‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم‏}‏فعززنا بثالث‏}‏ بالتخفيف وشدد الباقون‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وقوله تعالى‏}‏فعززنا بثالث‏}‏ يخفف ويشدد؛ أي قوينا وشددنا‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ أنشدني فيه أبو عمرو بن العلاء للمتلمس‏:‏

أُجُدٌّ إذا رحلت تعزز لحمها وإذا تشد بنسعها لا تنبس

أي لا ترغو؛ فعلى هذا تكون القراءتان بمعنىً‏.‏ وقيل‏:‏ التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا؛ ومنه‏}‏وعزني في الخطاب‏{‏ص‏:‏ 23‏]‏‏.‏ والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا‏.‏ وفي القصة‏:‏ أن عيسى أرسل إليهم رسولين فلقيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب ‏}‏يس‏}‏ فدعوه إلى الله وقالا‏:‏ نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله‏.‏ فطالبهما بالمعجزة فقالا‏:‏ نحن نشفي المرضى وكان له ابن مجنون‏.‏ وقيل‏:‏ مريض على الفراش فمسحاه، فقام بإذن الله صحيحا؛ فآمن الرجل بالله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، ففشا أمرهما، وشفيا كثيرا من المرضى، فأرسل الملك إليهما - وكان يعبد الأصنام - يستخبرهما فقالا‏:‏ نحن رسولا عيسى‏.‏ فقال‏:‏ وما آيتكما‏؟‏ قالا‏:‏ نبرئ الأكمه والأبرص ونبرئ المريض بإذن الله، وندعوك إلى عبادة الله وحده‏.‏ فهم الملك بضربهما‏.‏ وقال وهب‏:‏ حبسهما الملك وجلدهما مائة جلدة؛ فانتهى الخبر إلى عيسى فأرسل ثالثا‏.‏ قيل‏:‏ شمعون الصفا رأس الحواريين لنصرهما، فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم، واستأنسوا به، ورفعوا حديثه إلى الملك فأنس به، وأظهر موافقته في دينه، فرضي الملك طريقته، ثم قال يوما للملك‏:‏ بلغني أنك حبست رجلين دعواك إلى الله، فلو سألت عنهما ما وراءهما‏.‏ فقال‏:‏ إن الغضب حال بيني وبين سؤالهما‏.‏ قال‏:‏ فلو أحضرتهما‏.‏ فأمر بذلك؛ فقال لهما شمعون‏:‏ ما برهانكما على ما تدعيان‏؟‏ فقالا‏:‏ نبرئ الأكمه والأبرص‏.‏ فجيء بغلام ممسوح العينين؛ موضع عينيه كالجبهة، فدعوا ربهما فأنشق موضع البصر، فأخذا بندقتين طينا فوضعاهما في خديه، فصارتا مقلتين يبصر بهما؛ فعجب الملك وقال‏:‏ إن ها هنا غلاما مات منذ سبعة أيام ولم أدفنه حتى يجيء أبوه فهل يحييه ربكما‏؟‏ فدعوا الله علانية، ودعاه شمعون سرا، فقام الميت حيا، فقال للناس‏:‏ إني مت منذ سبعة أيام، فوجدت مشركا، فأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله، ثم فتحت أبواب السماء، فرأي شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة شمعون وصاحبيه، حتى أحياني الله، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى روج الله وكلمته، وأن هؤلاء هم رسل الله‏.‏ فقالوا له وهذا شمعون أيضا معهم‏؟‏ قال‏:‏ نعم وهو أفضلهم‏.‏ فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم، فأثر قوله في الملك، فدعاه إلى الله، فآمن الملك في قوم كثير وكفر آخرون‏.‏

وحكى القشيري أن الملك آمن ولم يؤمن قومه، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي منهم من الكفار‏.‏ وروي أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية قالوا‏:‏ يا نبي الله إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم‏.‏ فدعا الله لهم فناموا بمكانهم، فهبوا من نومتهم قد حملتهم الملائكة فألقتهم بأرضى أنطاكية، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم؛ فذلك قوله‏}‏وأيدناه بروح القدس‏{‏البقرة‏:‏ 87‏]‏ فقالوا جميعا‏}‏إنا إليكم مرسلون، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ تأكلون الطعام وتمشون في الأسواق ‏}‏وما أنزل الرحمن من شيء‏}‏ يأمر به ولا من شيء ينهى عنه ‏}‏إن أنتم إلا تكذبون‏}‏ في دعواكم الرسالة؛ فقالت الرسل‏}‏ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون‏}‏ وإن كذبتمونا ‏}‏وما علينا إلا البلاغ المبين‏}‏ في أن الله واحد ‏}‏قالوا‏}‏ لهم ‏}‏إنا تطيرنا بكم‏}‏ أي تشاءمنا بكم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ حبس عنهم المطر ثلاث سنين فقالوا هذا بشؤمكم‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين‏.‏ ‏}‏لئن لم تنتهوا‏}‏ عن إنذارنا ‏}‏لنرجمنكم‏}‏ قال الفراء‏:‏ لنقتلنكم‏.‏ قال‏:‏ وعامة ما في القرآن من الرجم معناه القتل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو على بابه من الرجم بالحجارة‏.‏ وقيل‏:‏ لنشتمنكم؛ وقد تقدم جميعه‏.‏ ‏}‏وليمسنكم منا عذاب أليم‏}‏ قيل‏:‏ هو القتل‏.‏ وقيل‏:‏ هو التعذيب المؤلم‏.‏ وقيل‏:‏ هو التعذيب المؤلم قبل القتل كالسلخ والقطع والصلب‏.‏ فقالت الرسل‏}‏طائركم معكم‏}‏ أي شؤمكم معكم أي حظكم من الخير والشر معكم ولازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا؛ قال معناه الضحاك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أعمالكم معكم‏.‏ ابن عباس‏:‏ معناه الأرزاق والأقدار تتبعكم‏.‏ الفراء‏}‏طائركم معكم‏}‏ رزقكم وعملكم؛ والمعنى واحد‏.‏ وقرأ الحسن‏}‏أطيركم‏}‏ أي تطيركم‏.‏ ‏}‏أئن ذكرتم‏}‏ قال قتادة‏:‏ إن ذكرتم تطيرتم‏.‏ وفيه تسعة أوجه من القراءات‏:‏ قرأ أهل المدينة‏}‏أين ذكرتم‏}‏ بتخفيف الهمزة الثانية‏.‏ وقرأ أهل الكوفة‏}‏أإن‏}‏ بتحقيق الهمزتين‏.‏ والوجه الثالث‏}‏أاإن ذكرتم‏}‏ بهمزتين بينهما ألف أدخلت الألف كراهة للجمع بين الهمزتين‏.‏ والوجه الرابع‏}‏أاإن‏}‏ بهمزة بعدها ألف وبعد الألف همزة مخففة‏.‏ والقراءة الخامسة ‏}‏أاأن‏}‏ بهمزتين مفتوحتين بينهما ألف‏.‏ والوجه السادس‏}‏أأن‏}‏ بهمزتين محققتين مفتوحتين‏.‏ وحكى الفراء‏:‏ أن هذه القراءة قراءة أبي رزين‏.‏

قلت‏:‏ وحكاه الثعلبي عن زر بن حبيش وابن السميقع‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر والحسن البصري‏}‏قالوا طائركم معكم أين ذكرتم‏}‏ بمعنى حيث‏.‏ وقرأ يزيد بن القعقاع والحسن وطلحة ‏}‏ذكرتم‏}‏ بالتخفيف؛ ذكر جميعه النحاس‏.‏ وذكر المهدوي عن طلحة بن مصرف وعيسى الهمذاني‏}‏آن ذكرتم‏}‏ بالمد، على أن همزة الاستفهام دخلت على همزة مفتوحة‏.‏ الماجشون‏}‏أن ذكرتم‏}‏ بهمزة واحدة مفتوحة‏.‏ فهذه تسع قراءات‏.‏ وقرأ ابن هرمز ‏}‏طيركم معك‏}‏‏.‏ ‏}‏أئن ذكرتم‏}‏ أي لإن وعظتم؛ وهو كلام مستأنف، أي إن وعظتم تطيرتم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما تطيروا لما بلغهم أن كل نبي دعا قومه فلم يجيب كان عاقبتهم الهلاك‏.‏ ‏}‏بل أنتم قوم مسرفون‏}‏ قال قتادة‏:‏ مسرفون في تطيركم‏.‏ يحيى بن سلام‏:‏ مسرفون في كفركم‏.‏ وقال ابن بحر‏:‏ السرف ها هنا الفساد، ومعناه بل أنتم قوم مفسدون‏.‏ وقيل‏:‏ مسرفون مشركون، والإسراف مجاوزة الحد، والمشرك يجاوز الحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون، وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون، إني إذا لفي ضلال مبين، إني آمنت بربكم فاسمعون، قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين، وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون‏}‏

قوله تعالى‏}‏وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى‏}‏ هو حبيب بن مري وكان نجارا‏.‏ وقيل‏:‏ إسكافا‏.‏ وقيل‏:‏ قصارا‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل‏:‏ هو حبيب بن إسرائيل النجار وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما‏.‏ ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره‏.‏ قال وهب‏:‏ وكان حبيب مجذوما، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم، لعلهم يرحمونه ويكشفون ضره فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل دعوه إلى عبادة الله فقال‏:‏ هل من آية‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك‏.‏ فقال‏:‏ إن هذا لعجب‏!‏ أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر‏.‏ فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس، فحينئذ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق بكسبه، فأطعم عياله نصفا وتصدق بنصف، فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم‏.‏ فـ ‏}‏قال يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏ الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر المرسلين جاء يسعى، فقال للمرسلين‏:‏ أتطلبون على ما جئتم به أجرا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا ما أجرنا إلا على الله‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ فاعتقد صدقهم وآمن بهم وأقبل على قومه فـ ‏}‏قال يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏‏.‏ ‏}‏اتبعوا من لا يسألكم أجرا‏}‏ أي لو كانوا متهمين لطلبوا منكم المال ‏}‏وهم مهتدون‏}‏ فاهتدوا بهم‏.‏ ‏}‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ قال قتادة‏:‏ قال له قومه أنت على دينهم‏؟‏‏!‏ فقال‏}‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ أي خلقني‏.‏ ‏}‏وإليه ترجعون‏}‏ وهذا احتجاج منه عليهم‏.‏ وأضاف الفطرة إلى نفسه؛ لأن ذلك نعمة عليه توجب الشكر، والبعث إليهم؛ لأن ذلك وعيد يقتضي الزجر؛ فكان إضافة النعمة إلى نفسه اظهر شكرا، وإضافة البعث إلى الكافر أبلغ أثرا‏.‏

قوله تعالى‏}‏أأتخذ من دونه آلهة‏}‏ يعني أصناما‏.‏ ‏}‏إن يردني الرحمن بضر‏}‏ يعني ما أصابه من السقم‏.‏ ‏}‏لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذوني‏}‏ يخلصوني مما أنا فيه من البلاء ‏}‏إني إذا‏}‏ يعني إن فعلت ذلك ‏}‏لفي ضلال مبين‏}‏ أي خسران ظاهر‏.‏ ‏}‏إني آمنت بربكم فاسمعون‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ خاطب الرسل بأنه مؤمن بالله ربهم‏.‏ ومعنى ‏}‏فاسمعون‏}‏ أي فأشهدوا، أي كونوا شهودي بالإيمان‏.‏ وقال كعب ووهب‏:‏ إنما قال ذلك لقومه إنى آمنت بربكم الذي كفرتم به‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لما قال لقومه ‏}‏اتبعوا المرسلين‏.‏ اتبعوا من لا يسألكم أجرا‏}‏ رفعوه إلى الملك وقالوا‏:‏ قد تبعت عدونا؛ فطول معهم الكلام ليشغلهم بذلك عن قتل الرسل، إلى أن قال‏}‏إني آمنت بربكم‏}‏ فوثبوا عليه فقتلوه‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره، وألقي في بئر وهي الرس وهم أصحاب الرس‏.‏ وفي رواية أنهم قتلوا الرسل الثلاثة‏.‏ وقال السدي‏:‏ رموه بالحجارة وهو يقول‏:‏ اللهم اهد قومي حتى قتلوه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ حفروا حفرة وجعلوه فيها، وردموا فوقه التراب فمات ردما‏.‏ وقال الحسن‏:‏ حرقوه حرقا، وعلقوه من سور المدينة وقبره في سور أنطاكية؛ حكاه الثعلبي‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وقال الحسن لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة، فإذا أعاد الله الجنة أدخلها‏.‏ وقيل‏:‏ نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه، فوالله ما خرجت روحه إلا إلى الجنة فدخلها؛ فذلك قوله‏}‏قيل ادخل الجنة‏}‏‏.‏ فلما شاهدها ‏}‏قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي‏}‏ أي بغفران ربي لي؛ فـ ‏}‏ما‏}‏ مع الفعل بمنزلة المصدر‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى الذي والعائد من الصلة محذوف‏.‏ ويجوز أن تكون استفهاما فيه معنى التعجب، كأنه قال ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي؛ قال الفراء‏.‏ واعترضه الكسائي فقال‏:‏ لو صح هذا لقال بم من غير ألف‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يجوز أن يقال بما بالألف وهو استفهام وأنشد فيه أبياتا‏.‏ الزمخشري‏}‏بم غفر لي‏}‏ بطرح الألف أجود، وإن كان إثباتها جائزا؛ يقال‏:‏ قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت‏.‏ المهدوي‏:‏ وإثبات الألف في الاستفهام قليل‏.‏ فيوقف على هذا على ‏}‏يعلمون‏}‏‏.‏ وقال جماعة‏:‏ معنى ‏}‏قيل ادخل الجنة‏}‏ وجبت لك الجنة؛ فهو خبر بأنه قد استحق دخول الجنة؛ لأن دخولها يستحق بعد البعث‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر من الآية أنه لما قتل قيل له ادخل الجنة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أدخله الله الجنة وهو فيها حي يرزق؛ أراد قوله تعالى‏}‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون‏{‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ على ما تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ بيانه‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏}‏قال يا ليت قومي يعلمون‏}‏ وهو مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد من قول عند ذلك الفوز العظيم الذي هو ‏}‏بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين‏}‏ وقرئ ‏}‏من المكرمين‏}‏ وفي معنى تمنيه قولان‏:‏ أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله وحميد عاقبته‏.‏ الثاني تمنى ذلك ليؤمنوا مثل إيمانه فيصيروا إلى مثل حاله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نصح قومه حيا وميتا‏.‏ رفعه القشيري فقال‏:‏ وفي الخبر أنه عليه السلام قال في هذه الآية ‏(‏إنه نصح لهم في حياته وبعد موته‏)‏‏.‏ وقال ابن أبي ليلى‏:‏ سُبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين‏:‏ علي بن أبي طالب وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس، فهم الصديقون؛ ذكره الزمخشري مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل‏.‏ والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه‏.‏ ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام‏.‏ فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل النقمة على قومه، فأمر جبريل فصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم؛ فذلك قوله‏}‏وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين‏}‏ أي ما أنزلنا عليهم من رسالة ولا نبي بعد قتله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن‏.‏ قال الحسن‏:‏ الجند الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ الجند العساكر؛ أي لم أحتج في هلاكهم إلى إرسال جنود ولا جيوش ولا عساكر؛ بل أهلكهم بصيحة واحدة‏.‏ قال معناه ابن مسعود وغيره‏.‏ فقوله‏}‏وما كنا منزلين‏}‏ تصغير لأمرهم؛ أي أهلكناهم بصيحة واحدة من بعد ذلك الرجل، أو من بعد رفعه إلى السماء‏.‏ وقيل‏}‏وما كنا منزلين‏}‏ على من كان قبلهم‏.‏ الزمخشري‏:‏ فان قلت فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق‏؟‏ فقال‏}‏فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها‏{‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏، وقال‏}‏بثلاثةآلالف من الملائكة منزلين‏{‏آل عمران‏:‏ 124‏]‏‏.‏ ‏}‏بخمسة آلاف من الملائكة مسومين‏{‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة، ولكن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء وأولي العزم من الرسل فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والإعزاز ما لم يوله أحدا؛ فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله‏}‏وما أنزلنا‏}‏‏.‏ ‏}‏وما كنا منزلين‏}‏ إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعل لغيرك‏.‏ ‏}‏إن كانت إلا صيحة واحدة‏}‏ قراءة العامة ‏}‏واحدة‏}‏ بالنصب على تقدير ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة‏.‏

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج‏}‏صيحة‏}‏ بالرفع هنا، وفي قوله‏}‏إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع‏}‏ جعلوا الكون بمعنى الوقوع والحدوث؛ فكأنه قال‏:‏ ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة‏.‏ وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث فهو ضعيف؛ كما تكون ما قامت إلا هند ضعيفا؛ من حيث كان المعنى ما قام أحد إلا هند‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال‏:‏ إن كان إلا صيحة‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يمتنع شيء من هذا، يقال‏:‏ ما جاءتني إلا جاريتك، بمعنى ما جاءتني امرأة أو جارية إلا جاريتك‏.‏ والتقدير في القراءة بالرفع ما قاله أبو إسحاق، قال‏:‏ المعنى إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدره غيره‏:‏ ما وقع عليهم إلا صيحة واحدة‏.‏ وكان بمعنى وقع كثير في كلام العرب‏.‏ وقرأ عبدالرحمن بن الأسود - ويقال إنه في حرف عبدالله كذلك - ‏}‏إن كانت إلا زقة واحذ‏}‏‏.‏ وهذا مخالف للمصحف‏.‏ وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح، ومنه المثل‏:‏ أثقل من الزواقي؛ فكان يجب على هذا أن يكون زقوة‏.‏ ذكره النحاس‏.‏

قلت‏:‏ وقال الجوهري‏:‏ الزقو والزقي مصدر، وقد زقا الصدى يزقو زقاء‏:‏ أي صاح، وكل صائح زاق، والزقية الصيحة‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا يقال‏:‏ زقوة وزقية لغتان؛ فالقراءة صحيحة لا اعتراض عليها‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏فإذا هم خامدون‏}‏ أي ميتون هامدون؛ تشبيها بالرماد الخامد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هلكى‏.‏ والمعنى واحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 32 ‏)‏

‏{‏يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون، ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون، وإن كل لما جميع لدينا محضرون‏}‏

قوله تعالى‏}‏يا حسرة على العباد‏}‏ منصوب؛ لأنه نداء نكرة ولا يجوز فيه غير النصب عند البصريين‏.‏ وفي حرف أبي ‏}‏يا حسرة العباد‏}‏ على الإضافة‏.‏ وحقيقة الحسرة في اللغة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا‏.‏ وزعم الفراء أن الاختيار النصب، وأنه لو رفعت النكرة الموصولة بالصلة كان صوابا‏.‏ واستشهد بأشياء منها أنه سمع من العرب‏:‏ يا مهتم بأمرنا لا تهتم‏.‏ وأنشد‏:‏

يا دار غيرها البلى تغييرا

قال النحاس‏:‏ وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره؛ لأنه يرفع النكرة المحضة، ويرفع ما هو بمنزلة المضاف في طول، ويحذف التنوين متوسطا، ويرفع ما هو في المعنى مفعول بغير علة أوجبت ذلك‏.‏ فأما ما حكاه عن العرب فلا يشبه ما أجازه؛ لأن تقدير يا مهتم بأمرنا لا تهتم على التقديم والتأخير، والمعنى‏:‏ يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا‏.‏ وتقدير البيت‏:‏ يا أيتها الدار، ثم حول المخاطبة؛ أي يا هؤلاء غير هذه الدار البلى؛ كما قال الله جل وعز‏}‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏{‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ فـ ‏}‏حسرة‏}‏ منصوب على النداء؛ كما تقول يا رجلا أقبل، ومعنى النداء‏:‏ هذا موضع حضور الحسرة‏.‏ الطبري‏:‏ المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل الله عليهم السلام‏.‏ ابن عباس‏}‏يا حسرة على العباد‏}‏ أي يا ويلا على العباد‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ حل هؤلاء محل من يتحسر عليهم‏.‏ و روى الربيع عن أنس عن أبي العالية أن العباد ها هنا الرسل؛ وذلك أن الكفار لما رأوا العذاب قالوا‏}‏يا حسرة على العباد‏}‏ فتحسروا على قتلهم، وترك الإيمان بهم؛ فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم الإيمان؛ وقال مجاهد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل‏.‏ وقيل‏}‏يا حسرة على العباد‏}‏ من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، لما وثب القوم لقتله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرسل الثلاثة هم الذين قالوا لما قتل القوم ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، وحل بالقوم العذاب‏:‏ يا حسرة على هؤلاء، كأنهم تمنوا أن يكونوا قد أمنوا‏.‏ وقيل‏:‏ هذا من قول القوم قالوا لما قتلوا الرجل وفارقتهم الرسل، أو قتلوا الرجل مع الرسل الثلاثة، على اختلاف الروايات‏:‏ يا حسرة على هؤلاء الرسل، وعلى هذا الرجل، ليتنا آمنا بهم في الوقت الذي ينفع الإيمان‏.‏ وتم الكلام على هذا، ثم ابتدأ فقال‏}‏ما يأتيهم من رسول‏}‏‏.‏ وقرأ ابن هرمز ومسلم بن جندب وعكرمة‏}‏يا حسرة على العباد‏}‏ بسكون الهاء للحرص على البيان وتقرير المعنى في النفس؛ إذ كان موضع وعظ وتنبيه والعرب تفعل ذلك في مثله، وإن لم يكن موضعا للوقف‏.‏ ومن ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقطع قراءته حرفا حرفا؛ حرصا على البيان والإفهام‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏على العباد‏}‏ متعلقا بالحسرة‏.‏ ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف لا بالحسرة؛ فكأنه قدر الوقف على الحسرة فأسكن الهاء، ثم قال‏}‏على العباد‏}‏ أي أتحسر على العباد‏.‏ وعن ابن عباس والضحاك وغيرهما‏}‏يا حسرة العباد‏}‏ مضاف بحذف ‏}‏على‏}‏‏.‏ وهو خلاف المصحف‏.‏ وجاز أن يكون من باب الإضافة إلى الفاعل فيكون العباد فاعلين؛ كأنهم إذا شاهدوا العذاب تحسروا فهو كقولك يا قيام زيد‏.‏ ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول، فيكون العباد مفعولين؛ فكأن العباد يتحسر عليهم من يشفق لهم‏.‏ وقراءة من قرأ‏}‏يا حسرة على العباد‏}‏ مقوية لهذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏}‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون‏}‏ قال سيبويه‏}‏أن‏}‏ بدل من ‏}‏كم‏}‏، ومعنى كم ها هنا الخبر؛ فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام‏.‏ والمعنى‏:‏ ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون‏.‏ وقال الفراء‏}‏كم‏}‏ في موضع نصب من وجهين‏:‏ أحدهما بـ ‏}‏يروا‏}‏ واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود ‏}‏ألم يروا من أهلكنا‏}‏‏.‏ والوجه الآخر أن يكون ‏}‏كم‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أهلكنا‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ القول الأول محال؛ لأن ‏}‏كم‏}‏ لا يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام في خبر ما قبله‏.‏ وكذا حكمها إذا كانت خبرا، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل ‏}‏أنهم‏}‏ بدلا من كم‏.‏ وقد رد ذلك محمد بن يزيد أشد رد، وقال‏}‏كم‏}‏ في موضع نصب بـ ‏}‏أهلكنا‏}‏ و‏}‏أنهم‏}‏ قي موضع نصب، والمعنى عنده بأنهم أي ‏}‏ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون‏}‏ بالاستئصال‏.‏ قال‏:‏ والدليل على هذا أنها في قراءة عبدالله ‏}‏من أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن‏}‏إنهم إليهم لا يرجعون‏}‏ بكسر الهمزة على الاستئناف‏.‏ وهذه الآية رد على من زعم أن من الخلق من يرجع قبل القيامة بعد الموت‏.‏ ‏}‏وإن كل لما جميع لدينا محضرون‏}‏ يريد يوم القيامة للجزاء‏.‏ وفرأ ابن عامر وعاصم وحمزة‏}‏وإن كل لما‏}‏ بتشديد ‏}‏لما‏}‏‏.‏ وخفف الباقون‏.‏ فـ ‏}‏إن‏}‏ مخففة من الثقيلة وما بعدها مرفوع بالابتداء، وما بعده الخبر‏.‏ وبطل عملها حين تغير لفظها‏.‏ ولزمت اللام في الخبر فرقا بينها وبين إن التي بمعنى ما‏.‏ ‏}‏وما‏}‏ عند أبي عبيدة زائدة‏.‏ والتقدير عنده‏:‏ وإن كل لجميع‏.‏ قال الفراء‏:‏ ومن شدد جعل ‏}‏لما‏}‏ بمعنى إلا و‏}‏إن‏}‏ بمعنى ما، أي ما كل إلا لجميع؛ كقوله‏}‏إن هو إلا رجل به جنة‏{‏المؤمنون‏:‏ 25‏]‏‏.‏ وحكى سيبويه في قوله‏:‏ سألتك بالله لما فعلت‏.‏ وزعم الكسائي أنه لا يعرف هذا‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في ‏}‏هود‏}‏‏.‏ وفي حرف أبي ‏}‏وإن منهم إلا جميع لدينا محضرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 33 ‏:‏ 36 ‏)‏

‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏}‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها‏}‏ نبههم الله تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكرهم توحيده وكمال قدرته، وهي الأرض الميتة أحياها بالنبات وإخراج الحب منها‏.‏ ‏}‏فمنه يأكلون‏}‏ ‏}‏فمنه‏}‏ أي من الحب ‏}‏يأكلون‏}‏ وبه يتغذون‏.‏ وشدد أهل المدينة ‏}‏الميتة‏}‏ وخفف الباقون، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏وجعلنا فيها‏}‏ أي في الأرض‏.‏ ‏}‏جنات‏}‏ أي بساتين‏.‏ ‏}‏من نخيل وأعناب‏}‏ وخصصهما بالذكر؛ لأنهما أعلى الثمار‏.‏ ‏}‏وفجرنا فيها من العيون‏}‏ أي في البساتين‏.‏ ‏}‏ليأكلوا من ثمره‏}‏ الهاء في ‏}‏ثمره‏}‏ تعود على ماء العيون؛ لأن الثمر منه أندرج؛ قاله الجرجاني والمهدوي وغيرهما‏.‏ وقيل‏:‏ أي ليأكلوا من ثمر ما ذكرنا؛ كما قال‏}‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه‏{‏النحل‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏}‏من ثمره‏}‏ بضم الثاء والميم‏.‏ وفتحهما الباقون‏.‏ وعن الأعمش ضم الثاء وإسكان الميم‏.‏ وقد مضى الكلام فيه في ‏}‏الأنعام‏}‏‏.‏ ‏}‏وما عملته أيديهم‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ في موضع خفض على العطف على ‏}‏من ثمره‏}‏ أي ومما عملته أيديهم‏.‏ وقرأ الكوفيون‏}‏وما عملت‏}‏ بغير هاء‏.‏ الباقون ‏}‏عملته‏}‏ على الأصل من غير حذف‏.‏ وحذف الصلة أيضا في الكلام كثير لطول الاسم‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏ما‏}‏ نافية لا موضع لها فلا تحتاج إلى صلة ولا راجع‏.‏ أي ولم تعمله أيديهم من الزرع الذي أنبته الله لهم‏.‏ وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل‏.‏ وقال غيرهم‏:‏ المعنى ومن الذي عملته أيديهم أي من الثمار، ومن أصناف الحلاوات والأطعمة، ومما اتخذوا من الحبوب بعلاج كالخبز والدهن المستخرج من السمسم والزيتون‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع ذلك إلى ما يغرسه الناس‏.‏ روي معناه عن ابن عباس أيضا‏.‏ ‏}‏أفلا يشكرون‏}‏ نعمه‏.‏

قوله تعالى‏}‏سبحان الذي خلق الأزواج كلها‏}‏ نزه نفسه سبحانه عن قول الكفار؛ إذ عبدوا غيره مع ما رأوه من نعمه وآثار قدرته‏.‏ وفيه تقدير الأمر؛ أي سبحوه ونزهوه عما لا يليق به‏.‏ وقيل‏:‏ فيه معنى التعجب؛ أي عجبا لهؤلاء في كفرهم مع ما يشاهدونه من هذه الآيات؛ ومن تعجب من شيء قال‏:‏ سبحان الله‏!‏ والأزواج الأنواع والأصناف؛ فكل زوج صنف؛ لأنه مختلف في الألوان والطعوم والأشكال والصغر والكبر، فاختلافها هو ازدواجها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني الذكر والأنثى‏.‏ ‏}‏مما تنبت الأرض‏}‏ يعني من النبات؛ لأنه أصناف‏.‏ ‏}‏ومن أنفسهم‏}‏ يعني وخلق منهم أولادا أزواجا ذكورا وإناثا‏.‏ ‏}‏ومما لا يعلمون‏}‏ أي من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض‏.‏ ثم يجوز أن يكون ما يخلقه لا يعلمه البشر وتعلمه الملائكة‏.‏ ويجوز ألا يعلمه مخلوق‏.‏ ووجه الاستدلال في هذه الآية أنه إذا انفرد بالخلق فلا ينبغي أن يشرَك به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏:‏ 38 ‏)‏

‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏

قوله تعالى‏}‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏ أي وعلامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب إلاهيته‏.‏ والسلخ‏:‏ الكشط والنزع؛ يقال‏:‏ سلخه الله من دينه، ثم تستعمل بمعنى الإخراج‏.‏ وقد جعل ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء وظهور المسلوخ فهي استعارة‏.‏ و‏}‏مظلمون‏}‏ داخلون في الظلام؛ يقال‏:‏ أظلمنا أي دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا‏.‏ وقيل‏}‏منه‏}‏ بمعنى عنه، والمعنى نسلخ عنه ضياء النهار‏.‏ ‏}‏فإذا هم مظلمون‏}‏ أي في ظلمة؛ لأن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فاذا خرج منه أظلم‏.‏

قوله تعالى‏}‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏ يجوز أن يكون تقديره وآية لهم الشمس‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏الشمس‏}‏ مرفوعا بإضمار فعل يفسره الثاني‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء ‏}‏تجري‏}‏ في موضع الخبر أي جارية‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل‏}‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏مستقرها تحت العرش‏)‏‏.‏ وفيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما‏:‏ ‏(‏أتدرون أين تذهب هذه الشمس‏)‏‏؟‏ قالوا الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها‏)‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتدرون متى ذلكم ذاك حين ‏}‏لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا‏{‏الأنعام‏:‏158‏]‏‏)‏‏.‏ ولفظ البخاري عن أبي ذر قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس‏:‏ ‏(‏تدري أين تذهب‏)‏ قلت الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى‏}‏والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ‏}‏‏)‏‏.‏ ولفظ الترمذي عن أبي ذر قال‏:‏ دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه‏)‏ قال قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم؛ قال‏:‏ ‏(‏فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها‏)‏ قال‏:‏ ثم قرأ ‏}‏ذلك مستقر لها‏}‏ قال وذلك قراءة عبدالله‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ إن الشمس إذا غربت دخلت محرابا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح، فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب‏:‏ ولم ذاك‏؟‏ قالت‏:‏ إني إذا خرجت عبدت من دونك‏.‏ فيقول الرب تبارك وتعالى‏:‏ أخرجي فليس عليك من ذاك شيء، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها‏.‏

وقال الكلبي وغيره‏:‏ المعنى تجري إلى أبعد منازلها في الغروب، ثم ترجع إلى أدنى منازلها؛ فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه بل ترجع منه؛ كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده فيقضي وطره، ثم يرجع إلى منزل الأول الذي ابتدأ منه سفره‏.‏ وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها، وهو مستقرها إذا طلعت الهنعة، وذلك اليوم أطول الأيام في السنة، وتلك الليلة أقصر الليالي، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم، وذلك اليوم أقصر الأيام، والليل خمس عشرة ساعة، حتى إذا طلع فرس الدلو المؤخر استوى الليل والنهار، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عشر ثلث ساعة، وكل عشرة أيام ثلث ساعة، وكل شهر ساعة تامة، حتى يستويا ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة، ويأخذ النهار من الليل كذلك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا، تنزل في كل يوم مطلعا، ثم لا تنزله إلى الحول؛ فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها‏.‏ وهو معنى الذي قبله سواء‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع‏.‏

قلت‏:‏ ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله‏.‏ وقيل‏:‏ إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا وقرأ ابن مسعود وابن عباس ‏}‏والشمس تجري لا مستقر لها‏}‏ أي إنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار، إلى أن يكورها الله يوم القيامة‏.‏ وقد احتج من خالف المصحف فقال‏:‏ أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ وهذا باطل مردود على من نقله؛ لأن أبا عمر و روى عن مجاهد عن ابن عباس وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عباس ‏}‏والشمس تجري لمستقر لها‏}‏ فهذان السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع - يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة، وما اتفقت عليه الأمة‏.‏

قلت‏:‏ والأحاديث الثابتة التي ذكرناها ترد قوله، فما أجرأه على كتاب الله، قاتله الله‏.‏ وقوله‏}‏لمستقر لها‏}‏ أي إلى مستقرها، والمستقر موضع القرار‏.‏ ‏}‏ذلك تقدير‏}‏ أي الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير ‏}‏العزيز العليم ‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم‏}‏

قوله تعالى‏}‏والقمر‏}‏ يكون تقديره وآية لهم القمر‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏والقمر‏}‏ مرفوعا بالابتداء‏.‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏والقمر‏}‏ بالنصب على إضمار فعل وهو اختيار أبي عبيد‏.‏ قال‏:‏ لأن قبله فعلا وبعده فعلا؛ قبله ‏}‏نسلخ‏}‏ وبعده ‏}‏قدرنا‏}‏‏.‏ النحاس‏:‏ وأهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال‏:‏ منهم الفراء قال‏:‏ الرفع أعجب إلي، وإنما كان الرفع عندهم أولى؛ لأنه معطوف على ما قبله ومعناه وآية لهم القمر‏.‏ وقوله‏:‏ إن قبله ‏}‏نسلخ‏}‏ فقبله ما هو أقرب منه وهو ‏}‏تجري‏}‏ وقبله ‏}‏والشمس‏}‏ بالرفع‏.‏ والذي ذكره بعده وهو ‏}‏قدرناه‏}‏ قد عمل في الهاء‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ الرفع أولى؛ لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء‏.‏ ويقال‏:‏ القمر ليس هو المنازل فكيف قال‏}‏قدرناه منازل‏}‏ ففي هذا جوابان‏:‏ أحدهما قدرناه إذا منازل؛ مثل‏}‏واسأل القرية‏{‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والتقدير الآخر قدرنا له منازل ثم حذفت اللام، وكان حذفها حسنا لتعدي الفعل إلى مفعولين مثل ‏}‏واختار موسى قومه سبعين رجلا‏{‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ والمنازل ثمانية وعشرون منزلا، ينزل القمر كل ليلة منها بمنزل؛ وهي‏:‏ الشرطان‏.‏ البطين‏.‏ الثريا‏.‏ الدبران‏.‏ الهقعة‏.‏ الهنعة‏.‏ الذراع‏.‏ النثرة‏.‏ الطرف‏.‏ الجبهة‏.‏ الخراتان‏.‏ الصرفة‏.‏ العواء‏.‏ السماك‏.‏ الغفر‏.‏ الزبانيان‏.‏ الإكليل‏.‏ القلب‏.‏ الشولة‏.‏ النعائم‏.‏ البلدة‏.‏ سعد الذابح‏.‏ سعد بلع‏.‏ سعد السعود‏.‏ سعد الأخبية‏.‏ الفرغ المقدم‏.‏ الفرغ المؤجر‏.‏ بطن الحوت‏.‏ فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة‏.‏ ثم يستسر ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع الفلك على المنازل، وهي منقسمة على البروج لكل برج منزلان وثلث‏.‏ فللحمل السرطان والبطين وثلث الثريا، وللثور ثلثا الثريا والدبران وثلثا الهقعة، ثم كذلك إلى سائرها‏.‏ وقد مضى في ‏}‏الحجر‏}‏ تسمية البروج والحمد لله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى خلق الشمس والقمر من نار ثم كسيا النور عند الطلوع، فأما نور الشمس فمن نور العرش، وأما نور القمر فمن نور الكرسي، فذلك أصل الخلقة وهذه الكسوة‏.‏ فأما الشمس فتركت كسوتها على حالها لتشعشع وتشرق، وأما القمر فأمرّ الروح الأمين جناح على وجهه فمحا ضوءه بسلطان الجناح، وذلك أنه روح والروح سلطانه غالب على الأشياء‏.‏ فبقي ذلك المحو على ما يراه الخلق، ثم جعل في غلاف من ماء، ثم جعل له مجرى، فكل ليلة يبدو للخلق من ذلك الغلاف قمرا بمقدار ما يقمر لهم حتى ينتهي بدؤه، ويراه الخلق بكماله واستدارته‏.‏ ثم لا يزال يعود إلى الغلاف كل ليلة شيء منه فينقص من الرؤية والإقمار بمقدار ما زاد في البدء‏.‏ ويبتدئ في النقصان من الناحية التي لا تراه الشمس وهي ناحية الغروب حتى يعود كالعرجون القديم، وهو العذق المتقوس ليبسه ودقته‏.‏ وإنما قيل القمر؛ لأنه يقمر أي يبيض الجو ببياضه إلى أن يستسر‏.‏

قوله تعالى‏}‏حتى عاد كالعرجون القديم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هو عود العذق الذي عليه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف، أي سار في منازل، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وضاق حتى صار كالعرجون‏.‏ وعلى هذا فالنون زائدة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو العذق اليابس المنحني من النخلة‏.‏ ثعلب‏}‏كالعرجون القديم‏}‏ قال‏}‏العرجون‏}‏ الذي يبقى من الكباسة في النخلة إذا قطعت، و‏}‏القديم‏}‏ البالي‏.‏ الخليل‏:‏ في باب الرباعي ‏}‏العرجون‏}‏ أصل العذق وهو أصفر عريض يشبه به الهلال إذا انحنى‏.‏ الجوهري‏}‏العرجون‏}‏ أصل العذق الذي يعوج وتقطع منه الشماريخ فيبقى على النخل يابسا؛ وعرجنه‏:‏ ضربه بالعرجون‏.‏ فالنون على قول هؤلاء أصلية؛ ومنه شعر أعشى بني قيس‏:‏

شرق المسك والعبير بها فهي صفراء كعرجون القمر

فالعرجون إذا عتق ويبس وتقوس شبه القمر في دقته وصفرته به‏.‏ ويقال له أيضا الإهان والكباسة والقنو، وأهل مصر يسمونه الإسباطة‏.‏ وقرئ‏}‏العرجون‏}‏ بوزن الفرجون وهما لغتان كالبُزيون والبِزيون؛ ذكره الزمخشري وقال‏:‏ هو عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة‏.‏ واعلم أن السنة منقسمة على أربعة فصول، لكل فصل سبعة منازل‏:‏ فأولها الربيع، وأوله خمسة عشر يوما من آذار، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما؛ تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج‏:‏ الحمل، والثور، والجوزاء، وسبعة منازل‏:‏ الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع‏.‏ ثم يدخل فصل الصيف في خمسة عشر يوما من حزيران، وعدد أيامه اثنان وتسعون يوما؛ تقطع الشمس فيه ثلاثة بروج‏:‏ السرطان، والأسد، والسنبلة، وسبعة منازل‏:‏ وهي النثرة والطرف والجبهة والخراتان والصرفة والعواء والسماك‏.‏ ثم يدخل فصل الخريف في خمسة عشر يوما من أيلول، وعدد أيامه أحد وتسعون يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج؛ وهي الميزان، والعقرب، والقوس، وسبعة منازل الغفر والزبانان والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة‏.‏ ثم يدخل فصل الشتاء في خمسة عشر يوما من كانون الأول، وعدد أيامه تسعون يوما وربما كان أحدا وتسعين يوما، تقطع فيه الشمس ثلاثة بروج‏:‏ وهي الجدي والدلو والحوت، وسبعة منازل سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر وبطن الحوت‏.‏ وهذه قسمة السريانيين لشهورها‏:‏ تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون الأول، كانون الثاني، أشباط، آذار، نيسان، أيار، حزيران، تموز، آب، أيلول، وكلها أحد وثلاثون إلا تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول، فهي ثلاثون، وأشباط ثمانية وعشرون يوما وربع يوم‏.‏ وإنما أردنا بهذا أن تنظر في قدرة الله تعالى‏:‏ فذلك قوله تعالى‏}‏والقمر قدرناه منازل‏}‏ فإذا كانت الشمس في منزل أهل الهلال بالمنزل الذي بعده، وكان الفجر بمنزلتين من قبله‏.‏ فإذا كانت الشمس بالثريا في خمسة وعشرين يوما من نيسان، كان الفجر بالشرطين، وأهل الهلال بالدبران، ثم يكون له في كل ليلة منزلة حتى يقطع في ثمان وعشرين ليلة ثمانيا وعشرين منزلة‏.‏ وقد قطعت الشمس منزلتين فيقطعهما، ثم يطلع في المنزلة التي بعد منزلة الشمس فـ ‏}‏ذلك تقدير العزيز العليم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏}‏القديم‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ القديم المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه‏.‏ وقيل‏:‏ أقل عدة الموصوف بالقديم الحول، فلو أن رجلا قال‏:‏ كل مملوك لي قديم فهو حر، أو كتب ذلك في وصيته عتق من مضى له حول أو أكثر‏.‏

قلت‏:‏ قد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ ما يترتب على الأهلة من الأحكام والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون‏}‏

قوله تعالى‏}‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏}‏ رفعت ‏}‏الشمس‏}‏ بالابتداء، ولا يجوز أن تعمل ‏}‏لا‏}‏ في معرفة‏.‏ وقد تكلم العلماء في معنى هذه الآية، فقال بعضهم‏:‏ معناها أن الشمس لا تدرك القمر فتبطل معناه‏.‏ أي لكل واحد منهما سلطان على حياله، فلا يدخل أحدهما على الآخر فيذهب سلطانه، إلى أن يبطل الله ما دبر من ذلك، فتطلع الشمس من مغربها على ما تقدم في آخر سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ بيانه‏.‏ وقيل‏:‏ إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء‏.‏ روي معناه عن ابن عباس والضحاك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لكل حد وعلم لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة‏.‏ أي لا تبقى الشمس حتى يطلع القمر، ولكن إذا غربت الشمس طلع القمر‏.‏ يحيى بن سلام‏:‏ لا تدرك الشمس القمر ليلة البدر خاصة لأنه يبادر بالمغيب قبل طلوعها‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منازل لا يشتركان فيها؛ قال ابن عباس أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ القمر في السماء الدنيا والشمس في السماء الرابعة فهي لا تدركه؛ ذكره النحاس والمهدوي‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأحسن ما قيل في معناها وأبينه مما لا يدفع‏:‏ أن سير القمر سير سريع والشمس لا تدركه في السير ذكره المهدوي أيضا‏.‏ فأما قوله سبحانه‏}‏وجمع الشمس والقمر‏{‏القيامة‏:‏ 9‏]‏ فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدم بيانه في آخر ‏}‏الأنعام‏}‏ ويأتي في سورة ‏[‏القيامة‏]‏ أيضا‏.‏ وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة‏.‏ ‏}‏وكل‏}‏ يعني من الشمس والقمر والنجوم ‏}‏في فلك يسبحون‏}‏ أي يجرون‏.‏ وقيل‏:‏ يدورون‏.‏ ولم يقل تسبح؛ لأنه وصفها بفعل من يعقل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة؛ ولو كانت ملصقة ما جرت ذكره الثعلبي والماوردي‏.‏ واستدل بعضهم بقوله تعالى‏}‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ على أن النهار مخلوق قبل الليل، وأن الليل لم يسبقه بخلق‏.‏ وقيل‏:‏ كل واحد منهما يجيء وقته ولا يسبق صاحبه إلى أن يجمع بين الشمس والقمر يوم القيامة؛ كما قال‏}‏وجمع الشمس والقمر‏}‏ وإنما هذا التعاقب الآن لتتم مصالح العباد‏.‏ ‏}‏لتعلموا عدد السنين والحساب‏{‏يونس‏:‏5‏]‏ ويكون الليل للإجمام والاستراحة، والنهار للتصرف؛ كما قال تعالى‏}‏ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله‏{‏القصص‏:‏ 73‏]‏ وقال‏}‏وجعلنا نومكم سباتا‏}‏ أي راحة لأبدانكم من عمل النهار‏.‏ فقوله‏}‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ أي غالب النهار؛ يقال‏:‏ سبق فلان فلانا أي غلبه‏.‏ وذكر المبرد قال‏:‏ سمعت عمارة يقرأ‏}‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ فقلت ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ أردت سابق النهار فحذفت التنوين؛ لأنه أخف‏.‏ قال النحاس‏:‏ يجوز أن يكون ‏}‏النهار‏}‏ منصوبا بغير تنوين ويكون التنوين حذف لالتقاء الساكنين‏.‏